أنيس أبي سعد
قد لا يختلف أحداً على فساد غالبية طبقتنا السياسية التي أمعنت نهباً بالدولة، هذه الطبقة التي تمسك البلاد بقبضة حديدية في ظلّ نظام سياسي ضعيف يلفظ أنفاسه الأخيرة لم تكن لتبلغ هذه الوقاحة ”في ممارسة الفساد” لولا المواطن… نعم المواطن.
إن مشكلة لبنان إلى جانب هذا النظام السياسي المُدعّم بالطائف وما كرّسه الطائف وعهد الوصاية يوماً من محاصصة في الدولة و من تقسيم للبلاد إلى مناطق نفوذ تحت جناح أمراء الطوائف لم يكن لولا فساد المواطن أولاً أو دعونا نقول غالبية المواطنين، ٤٠ عاماً مليئة بالدماء، بالفساد، بالسرقات وبتدمير ممنهج للبنان الكيان يرافقها أحقاداً طائفية دفينة وجروحاً لم يمتلك يوماً أي طرف لبناني ومن دون إستثناء جرأة الشروع بنقد ذاتي علني ورسمي يشكل الخطوة الأولى في العبور فعلياً نحو بناء جدي للدولة التي يطالب بها الجميع علناً ويضربون قيامها سِرًّا.
إن اللّبناني المجبول بهذه الكراهية والذي دعونا نقول يشكل قسماً لا بأس به من مجتمعنا كي لا نقول أكثريته، هو الحاجز الأول أمام المحاسبة الفعلية ومحاربة الفساد.
للأسف،فساد المواطن اللّبناني يبدأ يوم الإنتخابات بإمتناعه الإرادي عن محاسبة السارقين ومن أوصله إلى هذه المأساة لإعتبارات بالدرجة الأولى طائفية- مذهبية وبالدرجة الثانية شخصية.. وينتهي بممارساته اليومية التي جعلت من الفساد ثقافةً قولاً وفعلاً، أضف إلى ذلك خرق القوانين، تغييب الدولة والإمعان بإضعاف منطق السلطة الشرعية في مجتمع كالمجتمع اللبناني تكوّنه عشرات الطوائف التي بلورت عيشاً مشتركاً هشيشاً يهتز عند كل إستحقاق لا يمكن إلا أن يكون مدمراً.
المشكلة في لبنان هي مشكلة مجتمع بإمتياز فهذا المجتمع المبني على تناقضات عدة وعلى صيف وشتاء تحت سقف واحد هو أشبه بقنبلة موقوتة قد تطيح بما تبقى من لبنان في أي لحظة.
ولاء الفرد في هذا المجتمع أولاً هو لطائفته ولحزبه وإنتماء الطائفة للوطن تحكمه علاقات تاريخية أو مصالح مستجدة مع الخارج أضف إلى ذلك إختلافاً داخلياً جوهرياً ثقافياً- تاريخياً- إجتماعياً وسياسياً بين الطوائف يتعلق بلبنان وبقيام لبنان وبشكل لبنان.
يرافق كل هذا مواطن لبناني لم يتمكن من نسيان الماضي الأليم وتخطيه فعلياً لا بالشعارات والأشعار، هذا الماضي الذي يستذكره عند كل مناسبة وبأشكال مختلفة.. وهنا للأمانة، قد يكون هذا المواطن ضحية للسياسة العالمية، فعدم الشروع بمصالحة فعلية وغير شكلية تطوي صفحة الماضي الأليم عن قناعة يمكن أن يعود للجو الذي رافق إنهاء ملف لبنان آنذاك بالقوة، وجمع كل من تقاتل يوماً بضغط وبقرار دولي وإقليمي على طاولة واحدة والطلب منهم ببساطة بناء الدولة، الأمر الذي أوصل إلى دمج الجميع بطريقة عشوائية في عملية بناء لبنان، أي بكلمات أخرى لم يحاسب أحداً بملف الحرب اللبنانية، لم نعرف من أخطأ وأين؟ ومن كان على حق وأين؟.. كما فشل الجميع بمرحلة ما بعد الحرب وبناء البلاد، ومن تقاتل يوماً في شوارع بيروت تقاسم الدولة وقسمها لمناطق نفوذ وفق قاعدة ”غالب ومغلوب في الحرب”… أما المواطن؟ فدفع الثمن والفاتورة وحيداً، يكاد هذا يكون لُبّ المشكلة التي مهّدت لعدم قيام الدولة في لبنان.
المواطن، المجتمع الذي يشكله هذا المواطن ونظامنا السياسي الكريه، كل هذا هو بصراحة سبب ما نعيشه، وكل ما نراه اليوم من مشاكل معيشية وإقتصادية وسياسية هو بالدرجة الأولى نتيجة الإهمال وعدم الجدية في بناء الدولة وإحتراف تضييع الوقت.. فلو بنينا دولةً في ال ٣٠ سنة الأخيرة، ما وصلنا إلى هنا… ولو عالجنا الملف اللبناني بالإستناد إلى قاعدة المواطنة وبناء الكيان على أسس صحية ومتينة، ما وصلنا إلى هنا.. لو كنا صادقين مع بعضنا البعض، ما وصلنا إلى هنا… لو كان لبنان مُحصَنًا إقتصادياً وسياسياً، ما وصلنا إلى هنا.. ولو كان للبنان شعباً يمتلك الحد الأدنى من الوعي ما وصلنا إلى هنا.
عزيزي اللّبناني، هذا جرحك وها هو ”الإصبع على جرحك”، لم تُحاسب، لم تشرع ببناء دولتك وشرّعت هذا النظام عند كل إنتخابات نيابية، كرّست الفساد وحولته إلى ثقافة، فلماذا نلوم المسؤول وحده؟ هذه أوروبا خرجت من حرب عالمية أولى وثانية، ملايين القتلى والجرحى، نجحت شعوبها ببناء دولها بوعيها وبإرادتها الصلبة، لا بل وأكثر ذهبت إلى إنشاء الإتحاد الأوروبي.. أما أنت يا عزيزي اللّبناني الفاسد، فمقسم طائفياً، معزول وتعيش أسير أحقادك، تعيش موهوماً أن لبنان هو محور العالم ودول العالم كلها تدور حول لبنان… دمرت لبنان يوماً ومنعت قيامه أياماً.