مقتل فلويد.. وأزمات المجتمع الأمريكى

د. أحمد سيد أحمد

لم يكن مقتل المواطن الأمريكى من أصول إفريقية جورج فلويد على أيدى عناصر من الشرطة, الحادثة الأولى فقد سبقتها مئات الحوادث المماثلة خلال السنوات الماضية, كما أنها لن تكون الأخيرة مادامت أسباب المشكلة قائمة, ولكن هذه الحادثة أخذت اهتماما كبيرا داخل الولايات المتحدة وخارجها عكستها المظاهرات والاحتجاجات الضخمة فى الكثير من المدن الأمريكية وفى العديد من دول العالم, وذلك لعدة أسباب أولا: بشاعة الحادثة وصراخ فلويد بأنه لا يستطيع التنفس بعد أن ظلت أرجل الشرطى جاثمة على رقبته لسبع دقائق، وهو ما أثار تعاطفا كبيرا معه. وثانيا: انضمام الجماعات والحركات اليسارية الراديكالية الأمريكية للمظاهرات ومنها جماعة انتيفا أى ضد الفاشية والتى صنفها الرئيس ترامب كجماعة إرهابية بعد أن اتهمها بالبلطجية ونشر الفوضى والقيام بعمليات نهب المتاجر وحرق للمحال وسيارات الشرطة, وهو ما أعطى للاحتجاجات طابعا عنيفا دفع الشرطة الفيدرالية إلى اعتقال الآلاف من المحتجين. وثالثا: تسييس قضية فلويد من قبل الديمقراطيين, وتوظيف الحادثة للهجوم على الرئيس ترامب وإدارته للأزمة، وذلك للتأثير على فرص فوزه بولاية ثانية فى الانتخابات الرئاسية التى ستجرى بعد شهور, حيث انضم كثير من نواب الكونجرس من الديمقراطيين إلى المحتجين وهو ما أعطى المظاهرات زخما كبيرا، إضافة إلى هجوم وسائل الإعلام المؤيدة للحزب الديمقراطى على سياسة ترامب ومعالجته للحادثة وخطابه المندد بالمحتجين وتجاهل، حركات البيض المتشددة لاعتبارات انتخابية. ورابعا: أن أزمة كورونا ألقت بظلالها على مقتل فلويد, فقد أدت إلى تداعيات سلبية كبيرة, فإضافة إلى التداعيات البشرية المتمثلة فى أكثر من مائة ألف وفاة وملايين الإصابات, مما جعل الولايات المتحدة تحتل المركز الأول عالميا, أدت كورونا إلى تداعيات اقتصادية خطيرة أبرزها فقدان ملايين الأمريكيين خاصة من أصول إفريقية ومن الأقليات, وظائفهم, مما زاد من تدهور أوضاعهم المعيشية وفاقم من حالة التهميش التى يعيشونها، وتزامن ذلك مع حالة العنصرية التى يعانونها, وكان مقتل فلويد القشة التى قصمت ظهر البعير وأدت لانتشار المظاهرات فى غالبية الولايات الأمريكية خاصة نيويورك وكاليفورنيا وواشنطن العاصمة.

مقتل فلويد نزع الغطاء عن أزمات المجتمع الأمريكي, وأولاها: أزمة البوتقة, حيث قامت أمريكا على أساس المهاجرين إليها من كل دول العالم وانصهار هؤلاء فى بوتقة واحدة بغض النظر عن اختلافاتهم العرقية والدينية واللغوية ولون البشرة, وذلك تحت مفهوم المواطنة التى يضمنها الدستور الأمريكى والتشريعات المختلفة, لكن لم تنجح تلك النظرية فى إذابة الاختلافات بين الأمريكيين من أصول مختلفة, حيث زادت الحواجز المجتمعية والفروقات الطبقية بينهم من أصول أوروبية بيضاء والأمريكيين من أصول غير بيضاء من الإفريقيين ومن دول أمريكا اللاتينية، وانتشرت ظاهرة الأحياء المغلقة على أصحاب عرق أو دين معين, ولذلك أصبحت أزمة مجتمعية خاصة للأمريكيين من اصول إفريقية, وبرغم الإنجازات التى حققوها وعلى رأسها انتخاب أوباما, من أصول إفريقية, رئيسا للولايات المتحدة, إلا أن غالبيتهم تعانى التهميش وتدنى أوضاعهم الاجتماعية وانتشار الفقر والجريمة وتعاطى المخدرات بينهم.

وثانيتها: أزمة العنصرية, والتى تصاعدت بشكل كبير فى الولايات المتحدة عكستها وجود العشرات من الحركات العنصرية من الأمريكيين البيض والتى ترفع شعارات التفوق للعرق الأبيض وترى ان تزايد أعداد الأقليات من الأفارقة, 13% من السكان, ومن أصول لاتينية, 18% من السكان, يهدد وضع الأمريكيين البيض داخل المجتمع, والخطورة أن تلك الحركات تحولت من خطاب الكراهية إلى استخدام العنف على الأرض ضد الأمريكيين من غير البيض كما رأينا فى حادثة مقتل 23 شخصا من أصول لاتينية فى أغسطس العام الماضى على يد متعصب من البيض, ولذلك اتخذت الاحتجاجات زخما كبيرا داخليا وعالميا لرفض النزعات العنصرية والتمييز الاضطهاد والتيارات الشعبوية وخطاب الكراهية فى الولايات المتحدة وفى الدول الأوروبية بعد أن تصاعدت بشكل ملحوظ فى السنوات الأخيرة.

وثالثتها: أزمة العدالة الأمريكية, فرغم أن قتل عناصر من الشرطة من البيض أشخاصا من أصول إفريقية ولاتينية تكرر كثيرا إلا أنه فى كل مرة لم تتحقق العدالة الناجزة ولم يحاكم هؤلاء بشكل رادع لمنع تكرار تلك الحوادث, وفى غالبية تلك الحالات تم توجيه تهم مخففة لعناصر الشرطة, وهو ما جعل الأمريكيين من أصول إفريقية يشعرون بالظلم وعدم المساواة وغياب العدالة.

ورابعتها: أزمة النظام الرأسمالى وتزايد حدة الفجوة داخل المجتمع الأمريكى بين الأغنياء والفقراء وغالبيتهم من أصول إفريقية ولاتينية , وقد انعكست تلك التداعيات الاقتصادية على الأوضاع الاجتماعية وزادت من شعور هذه الأقليات بالعزلة والاغتراب مما أسهم فى انتشار بيئة التباعد بين الطبقات من البيض وتلك الأقليات, وكذلك بيئة العنف والكراهية وانتشار العنصرية.

الديمقراطية الأمريكية ونظرية البوتقة التى جعلت الولايات المتحدة نموذجا يحتذى عالميا فى تحقيق التعايش بين الاختلافات العرقية والدينية واللغوية على أساس مبدأ المواطنة, وحلم الكثيرين للهجرة إليها, أصبحت الآن فى غير واقعية وتحتاج لمراجعة حقيقية قبل أن تتفاقم النزعات العنصرية ويتكرر معها حادثة مقتل فلويد وتهتز صورة الولايات المتحدة فى الخارج.

أخبار ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى