
كفاح محمود
لم يوضع المثقف والنخب الثقافية عموما في منطقتنا التي تتعرض الى عواصف سياسية واجتماعية شديدة، في موضع ذهول وحيرة وإحباط وإحراج وصل حد المهزلة كما هو عليه اليوم في تسونامي الحروب والهروب والأسقاط للأنظمة العربية الفاسدة وشعاراتها الكاذبة التي تم تمريرها من خلال أجهزة إعلامهم واختزلت الأوطان بأشخاصهم وأحزابهم، واستغلوا حالات الانكسار والهزيمة لدى الكثير من هذه النخب في عنترياتهم التي تكشفت وانفضحت منذ احتلال العراق وانكفاء رئيسه في تلك الحفرة التي أذهلت أولئك الذين تصوروه بطل الأبطال ومحرر الشعوب، وحتى هروب رئيس سوريا (الأسد) الذي ترك البلاد والعباد لمصيرها بعد أن دمر كل شيء وهجر سكان دولته في اصقاع الدنيا.
وربما لأسباب كثيرة تتعلق بطبيعة مجتمعاتنا البدوية والزراعية والعشائرية ظل المثقف حاله حال معظم الناس مرتبطا بشخص الزعيم والمنقذ والقائد كونه رمز يمثل كل ما يجول في تراكماته وذاكرته الفكرية المرتبطة بالقرية والعشيرة والشيخ، حتى ضن انه المخلص والمنقذ الأوحد للأمة او الشعب مما فيها من انكسارات وهزائم وشوائب، وراح قلمه او حنجرته او فرشاته او ريشته تكتب وترسم وتغني وتعزف على أوتار تمجيده، وهو يعتقد أي هذا المثقف مهما كان صنفه إنما يمجد فنه وحريته وشعبه الذي اختصره في شخص القائد او الزعيم، متوهما أنه سيحقق كل الأمنيات ويزيل انكسارات النفوس العميقة وجروحها، وإزاء ذلك كانت هناك ايضا مجاميع أخرى من المثقفين تضمها سجون رهيبة وأخرى قتلت وتم تصفيتها او هاجرت وتحملت كل مآسي ذلك الرحيل القسري لأنها كانت ترفض ولا توافق او تؤيد ذلك النرجسي الأوحد والقائد الهمام ونظامه الشمولي، بينما انعزل آخرون الى زوايا بعيدة عن الأضواء لدرجة انهم استبدلوا مهنهم وإبداعاتهم بأشغال وأعمال أخرى لا علاقة لها بالثقافة وعوالمها وبعيدة عن الأضواء ودوائر التأثير!؟
ولن نتحدث عن كل الذين تكتسحهم العاصفة ولكننا نتذكر بألم شديد تلك الجموع من المثقفين العرب وغيرهم من كل الاختصاصات والاتجاهات في الأدب والفن والفكر والقضاء والرياضة والعلم الذين كانوا يتهافتون الى قصور القائد الضرورة وغيره من النرجسيين القادة في مهرجانات ومناسبات يقدمون فيها خدماتهم مقابل ما كانوا يحصلون عليه من أجور او هدايا مجزية نقدية او عينية او آمال في تحقيق اهدافهم وامنياتهم، حالهم حال أي شاعر من شعراء الخلفاء والملوك مدحا وتعظيما مقابل صرر الذهب والدنانير والجواري والعبيد، او ربما مقابل الحصول على الامن والأمان والستر على الحال والأحوال!؟
ورغم ذلك اعتقد جازما ان هناك من أبت نفوسهم وتسامت، ورفضت التنازل قيد انملة واحدة من مبادئها وارتضت التهميش والملاحقة والاعتقال أو الهجرة والرحيل والاغتراب، ورفض العديد ايضا دعوات المشاركة في الموافقة على حمامات الدماء التي كان يقيمها القائد من خلال كرنفالاته ومهرجاناته العائمة فوقها، وسواء كانت هذه المجاميع قلة أو كثرة الا انها فعلا تستحق تسمية المحاربين الأشداء الانقياء في عزة النفس والسمو والمبادئ واحترام مشاعر الشعوب، يقابلها ايضا من كان يؤمن وما يزال بقيادة وأحقية اولئك الرؤساء الطغاة على خلفية ما كانوا يؤمنون به من انهم منقذين ومخلصين ورموز الأمة ومحرريها تحت أي من الضغوط او القناعات التي ذكرناها، حتى بانت عوراتهم وظهرت عيوبهم في أبشع ما يمكن ان يكونوا امام شعوبهم، فكانت حقا واحدة من اكثر الأزمات انكسارا بل وأكثرها ذهولا وإحباطا وخزيا أصاب مؤيديهم ومعتنقي أفكارهم ووعاظ مجالسهم ومناسباتهم؟
في الثاني والعشرين من شهر حزيران عام 1992 كتب الكاتب المصري الشهير محمد حسنين هيكل مقالا في صحيفة “يوميوري شيبمون” اليابانية الواسعة الانتشار ضمن باب ثابت هو (نظرات على العالم) وكان عنوان المقال (القذافي وإعلان الجهاد)، قال فيه انه اول شخص التقى القذافي بعد ما سمي بثورة الفاتح في عام 1969 كمبعوث خاص من الرئيس المصري حينذاك جمال عبد الناصر، وحينما سأله الأخير عن انطباعاته بعد اجتماع دام خمس ساعات مع العقيد وضباط آخرين “ان الشاب البدوي الذي رأيته يذكرني بمهر عربي جميل وأصيل، لكنه مازال بكل عذرية الصحراء او البراري المفتوحة وبراءتها ونقائها وحيويتها، وهو يقدر، اذا استطاعت المسؤولية الوطنية ترويضه، ان يكون جوادا قويا وقادرا من نوع نادر، لكنه اذا لم يحدث ترويضه سوف يظل شاردا وقادرا على إلحاق الأذى بنفسه وبكل ما حوله من الأشياء الى الناس”.
يقول الفنان السوري الكبير دريد لحام في تبريره لاستقبال القذافي في بيته بالشام وهو جواب ربما يبرر علاقة كل الفنانين والشعراء والنخب الثقافية الكبيرة بالرؤساء الطغاة الذين سقطوا او في طريقهم للسقوط:
ما تعليقك على الزيارة التي قام بها الزعيم الليبي معمر القذافي لمنزلك؟
الزيارة تمت بناء على طلب رسمي ورغبة من هذا الرجل في عام 2008 عندما كانت دمشق تستضيف القمة العربية، وبالتأكيد أنني لست نبياً لأعرف عام 2008 أن القذافي سيرتكب ما يرتكب عام 2011 ولم يكن غيري يعرف.. الزيارة في المجمل لم تكن سرية، والأنبياء الذين يعترضون على الزيارة كان يجب أن يعترضوا عليها عام 2008 بما أنهم يعرفون ماذا كان سيجري عام 2011 ، في عام 2008 كان هو ضيف على البلد وألقى خطابا ناريا ظهر فيما بعد أنه يخفي خلفه هذه القسوة *
حقا أنها مواقف محيرة ومذهلة ومحرجة تظهر مدى تلاعب تلك الأنظمة ورموزها بمفاتيح اجتماعية او عاطفية او وطنية أو مالية تورط الكثير في الوقوف معهم أو ربما تسيء إليهم لمجرد هكذا لقاء ومنه الكثير الكثير مع كل أولئك الرؤساء الطغاة الذين دعوا الى قصورهم ومناسباتهم ومهرجاناتهم النخب الثقافية اسوة بالنخب والزعماء السياسيين وغيرهم، ونتذكر جميعا المئات من اولئك الذين كنا نراهم في مهرجانات المربد والمتنبي وأبي تمام وأيام الربيع في الموصل وبابل، ومثلها في ليبيا وسوريا واليمن والكثير من البلدان التي يحتفل ( رؤسائها وملوكها ) بهكذا مناسبات، ولا أظنني ظالما إن سألت كم هو عدد المثقفين العرب وغيرهم من كل اجناسهم الأدبية والفنية والثقافية ممن دعاهم العقيد أو القائد الضرورة او أسد الأمة وأمثالهم، ورفضوا دعواتهم لأنهم ظالمين ومستبدين الا من كفاه الله شرهم وخيرهم!؟
*مجتزأ من مقال الكاتب عادل الجبوري ( ماذا قال هيكل عن القذافي ) المنشور في إيلاف.
* مجتزأ من تحقيق أجرته إيلاف مع الفنان دريد لحام.