
مع التغيرات العمرانية الكبيرة التي شهدتها البلدان العربية في العقود الأخيرة، أصبح نمط بناء الشقق السكنية يشابه إلى حد كبير النمط الغربي أو نمط البناء في الدول الشيوعية السابقة. العمارات الحديثة أصبحت تضم مجموعة كبيرة من الشقق، والتي غالباً ما تكون ذات مساحات صغيرة وغرف ضيقة. هذا التغيير في نمط البناء لم يكن مجرد تطور في أسلوب العمارة، بل حمل معه تأثيرات عميقة على تكوين شخصية الإنسان العربي، وعلى الأجيال القادمة، وبالتالي على المجتمع ككل.
تأثير المساحات الضيقة على الأطفال
تعتبر المساحات الصغيرة داخل الشقق الحديثة من أبرز التحديات التي تواجه الأسر. عندما نتحدث عن الأطفال، فإن البيئة التي ينشأون فيها تلعب دورًا حيويًا في تشكيل شخصياتهم. في الشقق ذات المساحات الضيقة، غالبًا ما نجد أن الأطفال يضطرون لمشاركة نفس الغرفة مع إخوانهم، وفي كثير من الأحيان تكون هذه الغرف صغيرة لدرجة أنها لا توفر مساحة كافية للحركة أو اللعب.
هذا التكدس داخل الغرف يساهم في خلق نوع من الاحتكاك المستمر بين الأطفال، مما يؤدي إلى نشوء خلافات وشجارات قد تترك أثراً عميقاً في نفوسهم, وتترك ندوباً نفسية عميقة تؤثر على علاقتهم مع بعضهم لبقية حياتهم. بالإضافة إلى ذلك، عدم وجود مساحة شخصية لكل طفل يجعله يشعر بعدم الاستقلالية، وهو شعور قد يرافقه طوال حياته. الطفل الذي ينشأ في بيئة لا تسمح له باللعب بحرية ولا تمنحه الفرصة للاستكشاف والتفاعل مع محيطه، غالباً ما يصبح أكثر عرضة للخوف والقلق، مما يضعف من قدرته على تطوير مهارات التفكير الإبداعي وحل المشكلات.
كما أن التوتر المستمر لدى الطفل بسبب هذه الظروف يجعله سريع الغضب ويتخذ قرارات متسرعة وانفعالية, وتبقى معه هذه النفسية لبقية حياته.
التأثير النفسي والاجتماعي
عندما يقمع الأهل حاجة الطفل الأساسية للعب بسبب ضيق المساحة والخوف من إتلاف الأثاث أو التسبب بالفوضى، أو حتى لا يحدثوا أصواتاً تزعج الجيران الملاصقين لهم في الشقق المجاورة أو التي أسفل منهم, أو لحاجة الوالدين للراحة بعد يوم عمل طويل, فإن ذلك يؤثر سلباً على نفسية الطفل. فالأطفال، بطبيعتهم، يحتاجون إلى مساحة للعب والاستكشاف، حيث يتعلمون من خلال هذه الأنشطة ويكتسبون مهارات جديدة. إذا تم تقييد هذه الحاجات الطبيعية، فقد ينتج عن ذلك طفل خائف وغير واثق بنفسه، متوتر وغاضب, يحمل شعوراً بالضيق أو الحقد اتجاه الأنظمة والقوانين، وحتى اتجاه المجتمع بشكل عام.
هذه السمات النفسية السلبية قد تتطور مع الطفل وتؤثر على شخصيته في المستقبل. فعندما يكبر هذا الطفل ليصبح عضواً فاعلاً في المجتمع، سواء كان ذلك كمعلم، أو مسؤول حكومي، أو ضابط في الجيش أو الشرطة, أو في أي مجال آخر، فإن القرارات التي سيتخذها ستكون متأثرة بشخصيته التي تشكلت في بيئة غير داعمة وغير محفزة للإبداع والاستقلالية. وهذا قد يؤدي إلى تأثيرات سلبية على المجتمع ككل، حيث أن الأفراد الذين يتولون مناصب قيادية قد يتخذون قرارات غير مدروسة، نابعة من تجاربهم الشخصية السلبية.
تصميم المدن الحديثة: انعكاس للأزمة
لم يتوقف تأثير هذا التغيير في نمط البناء عند حدود الشقق السكنية، بل امتد ليشمل تصميم المدن بأكملها. المدن الحديثة في البلدان العربية أصبحت تتسم بكتل إسمنتية متراصة، دون وجود مساحات خضراء كافية أو أماكن مخصصة لنشاطات الأطفال. الشوارع المستقيمة والطويلة تفتقر إلى الجمالية الطبيعية وإلى الراحة حيث لا نجد في الطبيعة خطوط مستقيمة, وإنما انحناءات وأشكال غير مستقيمة, فإذا أردنا أن نقوم بعمل تصاميم ترتاح لها النفس البشرية علينا أن نحاكي خطوط الطبيعة.
إن غياب الحدائق والمساحات المفتوحة للأطفال للعب والتفاعل الاجتماعي يعني أن الأطفال إما يقضون وقتهم في الداخل أو يضطرون للعب في الشوارع، وهو ما يعرضهم لمخاطر متعددة، سواء من حيث السلامة أو من حيث التعرض لتأثيرات سلبية, إما من أطفال أو يافعين.
كما يجب أن يكون هناك في كل حي سكني مركز للأطفال لعمل النشاطات اليدوية والرياضية ومكان يلتقون فيه ويفرغون فيه طاقاتهم ويتعلمون فيه, ويعززون علاقاتهم ببعضهم بإشراف تربوي من موظفين متخصصين في هذه المجالات, وكل ذلك يجب أن يكون بشكل مجاني ممول من الحكومة المركزية وبنفس التمويل لكل منطقة حيث لا يجب أن يكون هناك فارق بين منطقة يسكنها الأغنياء ومنطقة يسكنها الفقراء.
أما مسألة المدرسة وتصميمها العمراني وأسلوب التعليم فيها فسنفرد لذلك مقالة خاصة في وقت لاحق.
الحاجة إلى إعادة النظر في التصميم العمراني
من الواضح أن تصميم الشقق والمدن الحديثة يسهم في خلق بيئة غير صحية للأطفال، مما ينعكس سلباً على المجتمع بأسره, وهذه مسألة تمس أمن الدولة وبقاء الأمة وليست مسألة رفاهية, هي مسألة وجود. هناك حاجة ملحة لإعادة النظر في أسلوب تصميم المدن والشقق السكنية. يجب أن تتضمن كل كتلة سكنية مساحات خضراء مخصصة للأطفال، حيث يمكنهم اللعب وممارسة الأنشطة الرياضية والفنية. بالإضافة إلى ذلك، يجب أن تكون المدارس جزءاً من هذا الحل، من خلال توفير حصص كافية للرياضة والفنون والحرف اليدوية، والتقنيات الحديثة, والصناعات, حيث يمكن للأطفال تعلم مهارات جديدة والتعبير عن إبداعهم.
إن بناء مجتمع قوي ومستدام يبدأ من بناء إنسان سليم، والإنسان السليم يحتاج إلى بيئة تحفز نموه النفسي والجسدي بشكل صحيح. علينا أن ندرك أن القرارات التي نتخذها اليوم بشأن تصميم الشقق والمدن ستؤثر على أجيال المستقبل، ومن ثم على مستقبل مجتمعاتنا. لذلك، يجب أن نضع في اعتبارنا دائماً أن الاستثمار في البيئة السكنية الملائمة هو استثمار في مستقبلنا.