واقع الصناعة في العالم العربي
تواجه الصناعة في العالم العربي تحديات كبيرة تتراوح بين الاقتصادية والسياسية إلى الاجتماعية والتكنولوجية. ما زالت العديد من الدول العربية تعتمد بشكل كبير على النفط والغاز كمصدر رئيسي للدخل القومي، مما أدى إلى تراجع الاستثمار في قطاعات صناعية أخرى وتباطؤ في تنويع الاقتصاد. هذا الاعتماد على الموارد الطبيعية يجعل الاقتصاديات العربية عرضة لتقلبات أسعار النفط في الأسواق العالمية ويبطئ النمو أو يوقفه في كثير من الأحيان.
التحديات التي تواجه الصناعة العربية
المجتمع: أحد أكبر التحديات التي تواجه الصناعة العربية هي نظرة المجتمع العربي للحرفي والصناعي والتي جاءت من الموروث الثقافي, حيث أن العربي لا ينظر للشخص على أنه جدير بالاحترام إن لم يكن سياسياً أو تاجراً أو شاعراً أو عالماً, فالعربي في التاريخ السابق لا يزوج ابنته لشخص حرفي مثل النجار أو الحداد, أو أي حرفي يعمل بيديه, ومازالت هذه النظرة مستمرة في الكثير من المجتمعات العربية حتى الآن وبنسب متفاوتة. كما أننا نرى أن الأهل يوجهون أبنائهم لدراسة الطب في المقام الأول ثم الصيدلة والهندسة وذلك لاعتبارات مادية أو مجتمعية لأن نظرة الاحترام للطبيب والصيدلي والمهندس أكبر بكثير من النظرة للصناعي, ومهما كنت ناجحاً ومتميزاً في عملك الصناعي, ومهما كنت تحمل من ثقافة وعلم, فيجب العمل على تغيير تلك النظرة من خلال البرامج الإعلامية والمدارس منذ المراحل الأولى للحضانة إلى الجامعات لتغيير هذه العقلية, ومن خلال تكريم الصناعيين وإظهارهم إعلامياً كأبطال وقدوة للناس وتقديمهم في الإعلام بشكل مستمر.
البنية التحتية: تعاني العديد من الدول العربية من بنية تحتية غير كافية لدعم الصناعات المتقدمة، مما يحد من القدرة على جذب الاستثمارات الأجنبية والمحلية, فالصناعة تحتاج لبنية تحتية قوية مثل الموانئ البحرية والمطارات وشبكات الطرق وشركات النقل والدعم اللوجستي, ونظام تحويلات مالية مرن, وشبكة اتصالات متطورة وشبكة كهرباء وماء بدون انقطاعات.
البيروقراطية: تعقيد الإجراءات الحكومية والروتين الإداري يعوقان النمو الصناعي، حيث يجد المستثمرون صعوبة في الحصول على التراخيص اللازمة وبدء الأعمال, ومازالت الكثير من الدول العربية تحتفظ بقوانين تم وضعها أثناء فترة الاستعمار أو بعده, ولم يتم تحديثها لتواكب العصر.
التعليم والتدريب: نقص المهارات الفنية والتقنية بين القوى العاملة يعوق تطوير الصناعات المتقدمة. هناك حاجة ماسة لبرامج تدريبية متخصصة تركز على الاحتياجات الصناعية فيجب على وزارة التعليم وضع برامج تدريب خاصة لكل مجال من مجالات الصناعة التي يراد دخول الدولة فيها ليكون ذلك عامل جذب للشركات العالمية, فهذه الشركات تحتاج لعمالة متخصصة قبل افتتاح أي مصنع داخل البلد, فالعامل الأكثر أهمية لوجود مصانع شركة أبل في السوق الصيني هو العمالة الماهرة والمدربة والمتخصصة وليس قلة الأجور, كما ورد في مقابلة خاصة مع تيم كوك المدير التنفيذي لشركة أبل.
البحث والتطوير: الإنفاق على البحث والتطوير في الدول العربية منخفض مقارنة بالدول المتقدمة، مما يحد من القدرة على الابتكار والتطوير التكنولوجي. فنحن لا نكاد نجد بحثاً ذا قيمة في المجالات الصناعية والتقنية صادر عن أية جامعة أو معهد تقني في البلدان العربية.
آفاق تطوير الصناعة في العالم العربي
على الرغم من التحديات الكبيرة، هناك فرص واعدة لتطوير الصناعة في العالم العربي من خلال عدة مبادرات واصلاحات, وقد بدأنا نرى ومضات مبشرة بالخير في الكثير من البلدان العربية, وهي تدل على رغبة المسؤولين في تلك البلدان على تغيير هذا الواقع, والاتجاه نحو اقتصاد متنوع, وتوطين الصناعات في تلك الدول.
تنويع الاقتصاد: تحتاج الدول العربية إلى تنويع اقتصادياتها بالاستثمار في قطاعات صناعية متنوعة مثل التكنولوجيا، والطاقة المتجددة، والصناعات التحويلية والغذائية والدوائية ومجال البرمجة والذكاء الصناعي و الروبوتات والصناعات الكيماوية والإلكترونيات والتعدين وصناعة آلات الإنتاج.
تطوير البنية التحتية: الاستثمار في تطوير البنية التحتية مثل الطرق، والموانئ، وشبكات الاتصالات والكهرباء والماء, والبنوك, والتحويلات المالية وتسهيل قوانين الاستيراد والتصدير يمكن أن يعزز من جاذبية المنطقة للاستثمار الصناعي.
تحسين بيئة الأعمال: تبسيط الإجراءات الحكومية والحد من البيروقراطية يمكن أن يشجع المستثمرين على بدء مشاريع صناعية جديدة ومحاولة الاستفادة من تجارب الدول التي سبقتنا في مجال تطوير بيئة الاستثمار.
الأمان والاستقرار السياسي: دون استقرار سياسي لا يمكن جذب الاستثمارات الاجنبية ولا يمكن التعاقد مع الشركات الكبرى إن لم يكن هناك أمان شخصي للأفراد وأمان في استقرار البلد واستقرار القوانين, فكما يقال فإن رأس المال جبان, ولا يمكن جذبه للبلد إن لم يشعر بالأمان.
الاستثمار في البحث والتطوير: زيادة الإنفاق على البحث والتطوير يمكن أن يحفز الابتكار ويساهم في تطوير صناعات جديدة وتقنيات حديثة وخاصة في المجالات التي لا تتطلب إمكانيات تقنية متقدمة ولا رأسمالاً ضخماً, مثل مجال البرمجة ونظم الحماية الإلكترونية, وعمل مبادرات ومسابقات وطنية للمخترعين والمبدعين وجمعهم بالصناعيين والشركات الكبرى لتحويل أفكارهم إلى مشاريع.
وإليكم بعض الأمثلة من المبادرات والمشاريع الصناعية الناجحة في ثلاث دول عربية فقط, وذلك لصعوبة سرد كل المبادرات في كل الدول العربية في مقال واحد, ولكننا سنفرد مقالة مفصلة لكل دولة فيما بعد.
المملكة العربية السعودية:
خلال الأشهر التسعة الأولى من عام 2022، أصدرت السعودية تصاريح لـ725 مشروعاً صناعياً بقيمة إجمالية بلغت 265 مليار دولار. تركز هذه المشاريع على تعزيز القدرات الصناعية المحلية وتشمل قطاعات متنوعة مثل المعادن، والكيماويات، والأجهزة المنزلية، والورق. كما أصدرت السعودية تراخيص لأول علامة تجارية محلية لتصنيع السيارات الكهربائية (Ceer) ومصنع السيارات الكهربائية Lucid.
أما مشروع نيوم فيعد أحد أهم المشاريع الصناعية في المملكة العربية السعودية، ويشمل منطقة أوكساچون الصناعية التي تهدف إلى أن تكون مركزًا عالميًا للصناعات المتقدمة والتكنولوجيا. يركز المشروع على الطاقة المتجددة، والتصنيع الذكي، والتكنولوجيا النظيفة، ويهدف إلى جذب الشركات العالمية للاستثمار في هذه المنطقة الفريدة.
ولا ننسى الكثير من الاستثمارات والمصانع الجديدة التي بدأت العمل أو ستبدأ العمل عما قريب في مجال المعادن والصلب والبتروكيماويات والروبوتات والتي استثمرت به شركة آلات المملوكة لصندوق الاستثمارات السعودي والتي تنوي استثمار مبلغ 100 مليار دولار حتى عام 2030.
الإمارات العربية المتحدة:
مدينة مصدر في الإمارات: تعد مدينة مصدر مثالاً ناجحاً على الاستثمار في الطاقة المتجددة والتكنولوجيا النظيفة. تستهدف المدينة أن تكون مركزاً للأبحاث والتطوير في مجالات الطاقة المتجددة والاستدامة.
مجمع خليفة الصناعي في أبوظبي، المعروف باسم كيزاد، يعد من أبرز المشاريع الصناعية في الإمارات. يوفر المجمع بيئة متكاملة للشركات الصناعية، مع بنية تحتية متقدمة وخدمات لوجستية متطورة، مما يجعله مركزاً جاذباً للاستثمارات المحلية والدولية في مختلف القطاعات الصناعية مثل الصناعات الثقيلة والخفيفة، والبتروكيماويات، والتصنيع الغذائي، وغيرها.
مدينة دبي الصناعية هي واحدة من أكبر المناطق الصناعية في الإمارات، وتوفر بيئة مثالية للشركات العاملة في قطاعات مثل الصناعات الغذائية والمشروبات، والصناعات الكيماوية، والمعدات الثقيلة والخفيفة، والخدمات اللوجستية. تتميز المدينة بوجود بنية تحتية متطورة ومرافق حديثة، مما يعزز من قدرة الشركات على الإنتاج بكفاءة عالية.
يعد مجمع محمد بن راشد آل مكتوم للطاقة الشمسية أكبر مشروع للطاقة الشمسية في العالم في موقع واحد. يهدف المجمع إلى توليد الطاقة الشمسية بكفاءة عالية وتوفير الكهرباء النظيفة للمنازل والشركات في دبي. يعكس هذا المشروع التزام الإمارات بالتحول إلى الطاقة المتجددة وتعزيز الاستدامة البيئية.
مصنع ستراتا في مدينة العين ويختص بتصنيع مكونات هياكل الطائرات. يعمل المصنع على توفير منتجات ذات جودة عالية لشركات الطيران العالمية، مما يعزز من مكانة الإمارات كمركز صناعي في مجال الطيران. يسهم المصنع في نقل المعرفة التقنية وتطوير الكفاءات المحلية في مجال تصنيع الطائرات.
المملكة المغربية:
مشروع مدينة طنجة تيك. وهو مشروع صناعي ضخم يقع في شمال المغرب. يهدف المشروع إلى جذب الاستثمارات الأجنبية في مجالات التكنولوجيا والصناعة. تمتد المدينة على مساحة 2000 هكتار وتضم مصانع في قطاعات مثل السيارات، الطيران، وتكنولوجيا المعلومات.
مركب “نور” للطاقة الشمسية في ورزازات ويعد أكبر مشروع للطاقة الشمسية في العالم. يهدف المشروع إلى توليد الكهرباء من الطاقة الشمسية لتلبية احتياجات السوق المحلية والدولية. يسهم المشروع في تحقيق أهداف المغرب في التحول إلى الطاقة المتجددة وتقليل الاعتماد على الوقود الأحفوري.
مصنع بومباردييه للطيران في مدينة الدار البيضاء، ويعد من أكبر مشاريع التصنيع في قطاع الطيران في المغرب. يهدف المصنع إلى إنتاج مكونات الطائرات وتصديرها إلى الأسواق العالمية، مما يعزز مكانة المغرب كمركز لصناعة الطيران في المنطقة كما تهدف المملكة لتوطين صناعة الطيران لتصنيع أول طائرة مغربية خلال السنوات القادمة.
مدينة القنيطرة الصناعية والتي تعد واحدة من أبرز المناطق الصناعية في المغرب، حيث تضم مجموعة من المصانع في قطاعات مثل السيارات والإلكترونيات. من بين المشاريع البارزة في هذه المنطقة هو مصنع “PSA” لصناعة السيارات، والذي يهدف إلى إنتاج سيارات لتلبية احتياجات السوق المحلية والتصدير.
خاتمة
إن تطوير الصناعة في العالم العربي يتطلب تضافر الجهود بين الحكومات والقطاع الخاص والمجتمع المدني. ويخطئ من يقوم برمي المسؤولية على جهة دون الأخرى, فهذا المشروع هو مشروع جماعي تقوم به كل فئات المجتمع مع الحكومات والقطاع الخاص. ومن خلال مواجهة التحديات واستغلال الفرص، يمكن للعالم العربي أن يبني قاعدة صناعية قوية تسهم في تحقيق التنمية الاقتصادية المستدامة, وتوفير فرص العمل, وتحسين مستوى المعيشة للمواطنين, ووضع الدول العربية على قائمة الدول الصناعية, لتأخذ مكانتها بين الأمم كأمة منتجة وقائدة للتقدم التقني والصناعي, وأن لا تبقى دولاً مستهلكة فقط.