الفيس بوك والاستغباء

نجلاء محفوظ

أقر وأعترف أنني أخصص أوقاتًا يوميًا للفيس بوك، وأنه أحد “النوافذ” التي أحرص على متابعتها، ولست ممن يصبون اللعنات عليه دائمًا ويرونه بلا أية فوائد، فلا شك أنه يحقق قدرًا لطيفًا من التواصل مع من نحب ومن نتشارك معهم بالاهتمامات وفوائد أخرى تختلف من إنسان لآخر.

أجرى موقع فيس بوك تجربة على عشرات آلاف من المستخدمين له بتعريضهم لمعلومات خاطئة سلبية باستمرار، وقام بقياس تأثير ذلك عليهم، واتضح أن أكثر من 80% ممن تعرضوا لهذه المنشورات السلبية والمغلوطة، أصبحوا يكتبون أمورا أشد كآبة على صفحاتهم الشخصية، بما يؤكد تأثرهم العميق بما قرأوه على فيس بوك، بل وأكدت الدراسة تأثر حالتهم النفسية في الحياة الواقعية أيضًا سلبًا وليس منشوراتهم فحسب، بما يؤكد خطورة المنشورات المختلقة على الصحة النفسية .

ونتعرض “جميعا” لمثل ذلك وتنتشر حالات من “الاستغباء” على الفيس بوك ، ويقال استغبى فلان أي وجده غبيًا أو جاهلا فعامله معاملة الأغبياء.

وحقنا على أنفسنا وواجبنا أيضًا التوقف عند تزايد مساحات الاستغباء ب الفيس بوك وكشفها للجميع، والتي أصبحت كالوباء الذي يصيب البعض من الجنسين ومن كل الأعمار، فلم تقتصر حالات الاستغباء مع سبق الإصرار والترصد من صغار السن، وقد نعذرهم، لصغر سنهم وعدم قدرتهم على كبح جماح الرغبة في لفت النظر وجمع “اللايكات” على ما يضعونه على صفحاتهم من منشورات وصور وفيديوهات.

واتسعت الظاهرة ووصلت لبعض كبار السن الذين يفترض أن يكونوا نالوا درجة كبيرة من الحكمة والخبرة والنضج للتمييز بين الصحيح والمغلوط من الكلام قبل التسرع بنشره وكأنه حقائق لا يجب مناقشتها.

ننبه إلى انتشار إعادة نشر روابط لأخبار تتضمن عناوين مثيرة دون فتح الرابط لقراءته، فكثير ما تخالف تفاصيل الخبر العنوان المثير.

ونتحدث بلا حرج عن انتشار غريب ومعلومات طبية ودينية مغلوطة، وما كان أسهل البحث عن صحة ذلك من خلال موقع جوجل أو غيره، وهو واجبنا نحو أنفسنا ونحو من يشاركوننا صفحاتنا على الفيس بوك أيضًا.

ومع الأسف انتشر من ينشرون الصور “المفبركة” وكتابة قصص فواجع من خيال كاتبها لجلب التعاطف وجمع “اللايكات” ولا يهمهم القدر السخيف من المشاعر السلبية التي يقومون بنشرها على من يقرأونها، وكأن الحياة في ظل كورونا لا تحتوي على قدر كاف من الأحاسيس المؤلمة التي “نكافح” للتعامل الإيجابي معها، وإذا بهؤلاء يلقون علينا بأكاذيبهم ليمارسوا علينا أسوأ حالات الاستغباء.

ومن ذلك أيضًا المنشورات التي يتغنى بها بعض الرجال بما تتحمله النساء من أعباء ويكيلون فيها أقسى وأبشع الاتهامات للرجال ويكادون يحرمونهم من إنسانيتهم، وكأنهم وحوش كاسرة لم تعرف يومًا مذاق الرحمة، وتتفرغ لنهش قلوب النساء وتحويل النساء إلى بسكوت هش يسهل لأي نظرة أو كلمة تهشيمه، ويتجاهل هؤلاء حقيقة أنه لا يوجد جنس بالكون يحتكر الحق والفضيلة والآخر عنوان السوء والرذيلة، وهو استغباء لجذب بنات حواء والفوز بإعجابهن بالمنشورات، وأحيانًا بمن يكتبونها أيضًا.

ويتجاهلون مع سبق الإصرار والترصد ما يتسببون به من تحريض سافر بين الأزواج ومن دورهم المؤكد في زيادة المشكلات الزوجية، ومضاعفة إحساس حواء بالمرارة وعدم الرضا، وهو أكسجين المناعة النفسية وغيابه يؤثر بالسلب ليس على الصحة النفسية وعلى “اتزان” حواء وعلى قدرتها على إدارة حياتها الزوجية بأفضل ما يكون فحسب؛ بل يضر أيضًا بصحتها الجسدية، ولذا لزم التحذير من هذا النوع المتنامي بضراوة من الاستغباء.

ومن الاستغباء “الجديد” على الفيس بوك كتابة منشورات كاذبة ومنحها مصداقية بالادعاء بأنها نتيجة أبحاث علمية مشهورة، وهي محض ادعاءات منهم فقط، ونطالب بحماية عقولنا والتيقن من دقة ما نقوم بإعادة نشره حتى لا نشارك في نشر الأكاذيب والمعلومات المغلوطة.

ونتوقف عند الاستغباء الشائع بغزارة، وهو التعاطف المبالغ به في التعليق على المنشورات التي يطلب فيها صاحبها تبرعًا بالدم أو ما شابه، فيسارع كثيرون بإعادة نشرها ويكتبون الكلمات المؤثرة “ويكتفون” بذلك ولا يتقدم إلا القليل للمساعدة الفعلية، وهو ما ذكره كثيرون تعرضوا لهذه المواقف.

ومن الاستغباء بكتابة تعليقات من قبيل أن الله قد يقلب الكون رأسًا على عقب ليحقق لك ما تريده، فلماذا يفعل الخالق عز وجل ذلك من أجل شخص عادي؟ فهذه التعليقات ومثيلاتها “كالمخدر” الذي يؤذي من يتلقاه وقد يشعره بأنه ضحية، أو يجعله يتغاضى عن بذل المجهود لتحقيق ما يريده.

نتمنى ألا نمنح ثقتنا على الفيس بوك إلا للأشخاص أو الصفحات التي تثبت التجربة وإعادة التجربة مرارًا وتكرارًا أنهم يستحقون هذه الثقة، وأنهم لا يفكرون ولا يلجأون إلى الاستغباء؛ لأنهم يحترمون عقول الجميع كما يحترمون أنفسهم.

أما باقي ما يتم تداوله على الفيس بوك فلنتذكر المشهد الرائع لفيلم good liar ، حيث يتعارف عجوزان على الفيس بوك ، فتبتسم السيدة وهي تحتسي كأسًا من الوسيكي وتكتب له: لا أحب الخمور وتتسع ابتسامة الرجل وهو ينفث دخان سيجارته باستمتاع: وأنا أكره التدخين!!

أخبار ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى